سورة يس - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)}
قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ} العهد هنا بمعنى الوصية، أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسنة الرسل. {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ} أي لا تطيعوه في معصيتي. قال الكسائي: لا للنهي. {وَأَنِ اعْبُدُونِي} {وأن اعبدوني} بكسر النون على الأصل، ومن ضم كره كسرة بعدها ضمة. {هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي عبادتي دين قويم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ} أي أغوى {جِبِلًّا كَثِيراً} أي خلقا كثيرا، قاله مجاهد. قتادة: جموعا كثيرة. الكلبي: أمما كثيرة، والمعنى واحد. وقرأ أهل المدينة وعاصم {جِبِلًّا} بكسر الجيم والباء. وأبو عمرو وابن عامر {جبلا} بضم الجيم وإسكان الباء. الباقون {جبلا} ضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وشددها الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعبد الله بن عبيد والنضر بن أنس. وقرأ أبو يحيى والأشهب العقيلي {جبلا} بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. فهذه خمس قراءات. قال المهدوي والثعلبي: وكلها لغات بمعنى الخلق. النحاس: أبينها القراءة الأولى، والدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرءوا {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 184] فيكون {جِبِلًّا} جمع جبلة والاشتقاق فيه كله واحد. وإنما هو من جبل الله عز وجل الخلق أي خلقهم. وقد ذكرت قراءة سادسة وهي: {ولقد أضل منكم جيلا كثيرا} بالياء. وحكي عن الضحاك أن الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، ذكره الماوردي. {أفلم تكونوا تعقلون} عداوته وتعلموا أن الواجب طاعة الله. {هذه جهنم} أي تقول لهم خزنة جهنم هذه جهنم التي وعدتم فكذبتم بها. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا كان يوم القيامة جمع الله الإنس والجن والأولين والآخرين في صعيد واحد ثم أشرف عنق من النار على الخلائق فأحاط بهم ثم ينادي مناد {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فحينئذ تجثو الأمم على ركبها {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}».


{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)}
قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضحك فقال: «هل تدرون مم أضحك؟- قلنا الله ورسوله أعلم قال- من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال: يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل» خرجه أيضا من حديث أبي هريرة. وفيه: «ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه». وخرج الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ذكره قال: وأشاره بيده إلى الشام فقال: «من هاهنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه» في رواية أخرى: «فخذه وكفه» الفدام مصفاة الكوز والإبريق، قال الليث. قال أبو عبيد: يعني أنهم منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق. ثم قيل في سبب الختم أربعة أوجه: أحدها: لأنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري.
الثاني: ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم، قاله ابن زياد.
الثالث: لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز، إن كان يوما لا يحتاج إلى إعجاز.
الرابع: ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانا في حق نفسه صارت عليه شهودا في حق ربه. فإن قيل: لم قال: {وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} فجعل ما كان من اليد كلاما، وما كان من الرجل شهادة؟ قيل: إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل، فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول وعما صدر من الأرجل بالشهادة. وقد روي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى» ذكره الماوردي والمهدوي.
وقال أبو موسى الأشعري: إنى لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى، ذكره المهدوي أيضا. قال الماوردي: فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء، لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها. قال: وتقدمت اليسرى، لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها، فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها. قلت: أو بالعكس لغلبة الشهوة، أو كلاهما معا والكف، فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة. والله أعلم. قوله تعالى: {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} حكى الكسائي: طمس يطمس ويطمس. والمطموس والطميس عند أهل اللغة الأعمى الذي ليس في عينيه شق. قال ابن عباس: المعنى لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبدا إلى طريق الحق. وقا ل الحسن والسدي: المعنى لتركناهم عميا يترددون. فالمعنى لأعميناهم فلا يبصرون طريقا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها. وهذا اختيار الطبري. وقوله: {فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ} أي استبقوا الطريق ليجوزوا {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي فمن أين يبصرون.
وقال عطاء ومقاتل وقتادة وروي عن ابن عباس: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فاهتدوا وأبصروا رشدهم، وتبادروا إلى طريق الآخرة. ثم قال: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} ولم نفعل ذلك بهم، أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية. وقد روي عن عبد الله بن سلام في تأويل هذه الآية غير ما تقدم، وتأولها على أنها في يوم القيامة. وقال: إذا كان يوم القيامة ومد الصراط.، نادى مناد ليقم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، فيقومون برهم وفاجرهم يتبعونه ليجوزوا الصراط، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فجارهم، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه. ثم ينادي مناد ليقم عيسى وأمته، فيقوم فيتبعونه برهم وفاجرهم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام. ذكره النحاس وقد كتبناه في التذكرة بمعناه حسب ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. وذكره القشيري.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أخذ الأسود بن الأسود حجرا ومعه جماعة من بني مخزوم ليطرحه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطمس الله على بصره، وألصق الحجر بيده، فما أبصره ولا اهتدى، ونزلت الآية فيه. والمطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق، مأخوذ من طمس الريح الأثر، قاله الأخفش والقتبي. قوله تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} المسخ: تبديل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة. قال الحسن: أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم. وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعا تقصده فتتحير، فلا تقبل ولا تدبر. ابن عباس رضي الله عنه: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم.
وقيل: المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترءوا فيه على المعصية. ابن سلام: هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط. وقرأ الحسن والسلمى وزر بن حبيش وعاصم في رواية أبي بكر {مكاناتهم} على الجمع، الباقون بالتوحيد: وقرأ أبو حيوة: {فما استطاعوا مضيا} بفتح الميم. والمضي بضم الميم مصدر يمضي مضيا إذا ذهب.
قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} قرأ عاصم وحمزة {نُنَكِّسْهُ} بضم النون الأولى وتشديد الكاف من التنكيس. الباقون {ننكسه} بفتح النون الأولى وضم الكاف من نكست الشيء أنكسه نكسا قلبته على رأسه فانتكس. قال قتادة: المعنى أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا.
وقال سفيان في قول تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} إذا بلغ ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته. قال الشاعر:
من عاش أخلقت الأيام جدته *** وخانه ثقتاه السمع والبصر
فطول العمر يصير الشباب هرما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا، وهذا هو الغالب. وقد تعوذ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يرد إلى أرذل العمر. وقد في النحل بيانه. {أَفَلا يَعْقِلُونَ} أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرأ نافع وابن ذكوان أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرأ نافع وابن ذكوان: {تعقلون} بالتاء. الباقون بالياء.


{وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)}
قوله تعالى: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} فيه أربع مسائل: لا أولى- أخبر تعالى عن حال نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد قول من قال من الكفار إنه شاعر، وإن القرآن شعر، بقوله: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} وكذلك كان رسول الله صلى عليه وسلم لا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. من ذلك أنه أنشد يوما قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** وويأتيك من لم تزوده بالأخبار
وأنشد يوما وقد قيل له من أشعر الناس فقال الذي يقول:
ألم ترياني كلما جئت طارقا *** وجدت بها وإن لم تطب طيبا
وأنشد يوما:
أتجعل نهبي ونهب العب *** وئد بين الأقرع وعيينة
وقد كان عليه السلام ربما أنشد بيت المستقيم في النادر. روي أنه أنشد بيت عبد الله بن رواحة:
ببيت يجافي جنبة عن فراشه *** وإذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الحسن بن أبي الحسن: أنشد النبي عليه السلام:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنما قال الشاعر:
هريرة ودع إن تجهزت غاديا *** وكفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}. وعن الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له.
الثانية: إصابته الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانا من نثر كلامه ما يدخل في ورن، كقول يوم حنين وغيره:
هل أنت إلا إصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت
وقوله: «أنا النبي لا كذب *** وأنا ابن عبد المطلب»
فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفى كل كلام، وليس ذلك شعرا ولا في معناه، كقوله تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وقوله: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، وقوله: {وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ} [سبأ: 13] إلى غير ذلك من الآيات. وقد ذكر ابن العربي منها آيات وتكلم عليها وأخرجها عن الوزن، على أن أبا الحسن الأخفش قال في قول: «أنا النبي لا كذب» ليس بشعر.
وقال الخليل في كتاب العين: إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرا. وروي عنه أنه من منهوك الرجز. وقد قيل:
لا يكون من منهوك الرجز إلا بالوقف على الباء من قوله: «لا كذب»، ومن قوله: «عبد المطلب». ولم يعلم كيف قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن العربي: والأظهر من حال أنه قال: «لا كذب» الباء مرفوعة، ويخفض الباء من عبد المطلب على الإضافة.
وقال النحاس قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرا، لأنه إذا فتح الباء من البيت الأول أو ضمها أو نونها، وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن وزن الشعر.
وقال بعضهم: ليس هذا الوزن من الشعر. وهذا مكابرة العيان، لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره. وأما قوله: «هل أنت إلا إصبع دميت» فقيل إنه من بحر السريع، وذلك لا يكون إلا إذا كسرت التاء من دميت، فإن سكن لا يكون شعرا بحال، لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول، ولا مدخل لفعول في بحر السريع. ولعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالها ساكنة التاء أو متحركة التاء من غير إشباع. والمعول عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شعر، ويسقط الاعتراض، ولا يلزم منه أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عالما بالشعر ولا شاعر أن التمثل بالبيت النزر وإصابة القافيتين من الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالما بالشعر، ولا يسمى شاعرا باتفاق العلماء، كما أن من خاط خيطا لا يكون خياطا. قال أبو إسحاق الزجاج: معنى: {وما علمناه الشعر} وما علمنا هـ أن يشعر أي ما جعلناه شاعرا، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئا من الشعر. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا. وقد قيل: إنما خبر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر ولم يخبر أنه لا ينشد شعرا، وهذا ظاهر الكلام. وقيل فيه قول بين، زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة، وذلك أنهم قالوا: كل من قال قولا موزونا لا يقصد به إلى شعر فليس بشعر وإنما وافق الشعر. وهذا قول بين. قالوا: وإنما الذي نفاه الله عن نبيه عليه السلام فهو العلم بالشعر وأصنافه، وأعاريضه وقوافيه والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفا بذلك بالاتفاق. ألا ترى أن قريشا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: نقول إنه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم: والله لتكذبنكم العرب، فإنهم يعرفون أصناف الشعر، فوالله ما يشبه شيئا منها، وما قوله بشعر.
وقال أنيس أخو أبي ذر: لقد وضعت قوله على أقراء الشعر.
فلم يلتئم أنه شعر. أخرجه مسلم، وكان أنيس من أشعر العرب. وكذلك عتبة بن أبي ربيعة لما كلمه: والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، على ما يأتي بيانه من خبره في سورة فصلت إن شاء الله تعالى. وكذلك قال غيرهما من فصحاء العرب العرباء، واللسن البلغاء. ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد شعرا، وإنما بعد منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه، فقد يقول القائل: حدثنا شيخ لنا وينادي يا صاحب الكسائي، ولا يعد هذا شعرا. وقد كان رجل ينادي في مرضه وهو من عرض العامة العقلاء: اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى.
الثالثة: روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر فقال: لا تكثرن منه، فمن عيبه أن الله يقول: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} قال: ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: أن أجمع الشعراء قبلك، وسلهم عن الشعر، وهل بقي معهم معرفة، وأحضر لبيدا ذلك، قال: فجمعهم فسألهم فقالوا إنا لنعرفه ونقوله. وسأل لبيدا فقال: ما قلت شعرا منذ سمعت الله عز وجل يقول: {الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2- 1] قال ابن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر، كما لم يكن قوله: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] من عيب الكتابة، فلما لم تكن الأمية من عيب الخط، كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عيب الشعر. روي أن المأمون قال لأبي علي المنقري: بلغني أنك أمي، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن. فقال: يا أمير المؤمنين، أما اللحن فربما سبق لساني منه بشيء، وأما الأمية وكسر الشعر فقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكتب ولا يقيم الشعر. فقال له: سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا وهو الجهل، يا جاهل! إن ذلك كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضيلة، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة، وإنما منع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لنفي الظنة عنه، لا لعيب في الشعر والكتابة.
الرابعة: قوله تعالى: {وَما يَنْبَغِي لَهُ} أي وما ينبغي له أن يقول. وجعل الله جل وعز ذلك علما من أعلام نبيه عليه السلام لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليه، فيظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر. ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول، لأن ما وافق وزنه وزن الشعر، ولم يقصد به إلى الشعر ليس بشعر، ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا، على ما تقدم بيانه.
وقال الزجاج: معنى {وَما يَنْبَغِي لَهُ} أي ما يتسهل قول الشعر إلا الإنشاء. {إِنْ هُوَ} أي هذا الذي يتلوه عليكم {ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا} أي حي القلب، قال قتادة. الضحاك: عاقلا.
وقيل: المعنى لتنذر من كان مؤمنا في علم الله. هذا على قراءة التاء خطابا للنبي عليه السلام، وهي قراءة نافع وابن عامر. وقرأ الباقون بالياء على معنى لينذر الله عز وجل، أو لينذر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو لينذر القرآن. وروي عن ابن السميقع {لينذر} بفتح الياء والذال. {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ} أي وتجب الحجة بالقرآن على الكفرة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8